فصل: ذكر عدة حوادث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر إرسال سيف الإسلام إلى اليمن وتغلبه عليه

في هذه السنة سير صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغدكين إلى بلاد اليمن وأمره بتملكها وقطع الفتن بها وفوض إليه أمرها وكان بها حطان بن منقذ كما ذكرناه قبل وكتب عز الدين عثمان الزنجيلي متولي عدن إلى صلاح الدين يعرفه باختلال البلاد ويشير بإرسال بعض أهله إليها لأن حطان كان قوي عليه فخافه عثمان فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام وسيره إلى أهل اليمن فوصل إلى زبيد فخافه حطان ابن منقذ واستشعر منه وتحصن في بعض القلاع فلم يزل به سيف الإسلام يؤمنه ويهدي إليه ويتلطفه حتى نزل إليه فأحسن صحبته واعتمد معه ما لم يكن يتوقعه من الإحسان فلم يثق حطان به وطلب نه دستورًا ليقصد الشام فامتنع في إجابته إظهارًا للرغبة في كونه عنده فلم يزل حطان يراجعه حتى أذن له فأخرج أثقاله وأمواله وأهله وأصحابه وكل ما له وسير الجميع بين يديه‏.‏

فلما كان الغد دخل على سيف الإسلام ليودعه قبض عليه واسترجع جميع ماله فأخذه عن أخره لم يسلم منه قليل ولا كثير ثم سجنه في بعض القلاع وكان أخر العهد به فقيل أنه قتله وكان في جملة ما اخذ منه الأموال والذهب والعين في سبعين غلافًا زردية مملوءة عينًا‏.‏

وأما عز الدين عثمان الزنجيلي فإنه لما سمع ما جرى على حطان خاف فسار نحو الشام خائفًا يترقب وسير معظم أمواله في البحر فصادفهم مراكب فيها أصحاب سيف الإسلام فخذوا كل ما لعز الدين ولم يبق إلا ما صحبه في الطريق وصفت زبيد وعدن وما معهما من البلاد لسيف الإسلام‏.‏

وغيره من بلاد الفرنج لما وصل صلاح الدين إلى دمشق كما ذكرناه أقام أيامًا يريح ويستريح هو وجنده ثم سار إلى بلاد الفرنج في ربيع الأول فقصد طبرية فنزل بالقرب منها وخيم في الأقحوانة من الأردن وجاءت الفرنج بجموعها فنزلت في طبرية فسير صلاح الدين ابن أخيه فرخشاه إلى بيسان فدخلها قهرًا وغنم ما فيها وقتل وسبى وجحف الغور غارة شعواء فعم أهله قتلًا وأسرًا وجاءت العرب فأغارت على جنين واللجون وتلك الولاية حتى قاربوا مرج عكا‏.‏

وسار الفرنج من طبرية فنزلوا تحت جبل كوكب فتقدم صلاح الدين إليهم وأرسل العساكر عليهم يرمونهم بالنشاب فلم يبرحوا ولم يتحركوا للقتال فأمر أبني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه فحملا على الفرنج فيمن معهما فقاتلوا قتالًا شديدًا ثم إن الفرنج انحازوا على حاميتهم فنزلوا غفربلا فلما رأى صلاح الدين ما قد أثخن فيهم وفي بلادهم عاد عنهم إلى دمشق‏.‏

  ذكر حصر بيروت ثم إنه سار عن دمشق إلى بيروت

فنهب بلدها وكان قد أمر الأسطول المصري بالمجيء في البحر إليها فساروا ونازلوها وأغاروا عليها وعلى بلدها وسار صلاح الدين فوافاهم ونهب ما لم يصل الأسطول إليه وحصرها عدة أيام‏.‏

وكان عازمًا على ملازمتها إلى أن يفتحها فأتاه الخبر وهو عليها أن البحر قد ألقى بطسة للفرنج فيها جمع عظيم منهم إلى دمياط وكانوا قد خرجوا لزيارة البيت المقدس فأسروا من بها إلى أن غرق منهم الكثير فكان عدة الأسرى ألفًا وستمائة وستة وسبعين أسيرًا فضربت بذلك البشائر‏.‏

  ذكر عبور صلاح الدين الفرات وملكه ديار الجزيرة

في هذه السنة عبر صلاح الدين الفرات إلى الديار الجزرية وملكها‏.‏ وسبب ذلك أن مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين وهو مقطع حران كان قد أقطعه إياها عز الدين أتابك المدينة والقلعة ثقة به واعتمادًا عليه أرسل إلى صلاح الدين هو يحاصر بيروت يعلمه بها أنه معه محب لدولته ووعده النصرة له إن عبر الفرات ويطمعه في البلاد ويحثه على الوصول إليها فسار صلاح الدين عن بيروت ورسل مظفر الدين تترى إليه يحثه على المجيء فجد صلاح الدين السير مظهرًا أنه يريد حصر حلب سترًا للحال‏.‏

فلما قارب الفرات سار إليه مظفر الدين فعبر الفرات واجمع به وعاد معه فقصد البيرة وهي قلعة منيعة على الفرات من الجانب الجزري وكان صاحبها قد سار مع صلاح الدين وفي طاعته وقد ذكرنا سبب ذلك قبل فعبر هو وعسكره الفرات على الجسر الذي عند البيرة‏.‏

وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما وصول صلاح الدين إلى الشام قد جمعا العسكر وسارا إلى نصيبين ليكونا على أهبة واجتماع لئلا يتعرض صلاح الدين إلى حلب ثم تقدما إلى دارا فنزلا عندها فجاءهما أمر لم يكن في الحساب فلما بلغهما عبور صلاح الدين الفرات عادا إلى الموصل وأرسلا إلى الرها عسكرًا يحميها ويمنعها فلما سمع صلاح الدين ذلك قوي طمعه في البلاد ولما عبر صلاح الدين الفرات كاتب الملوك أصحاب الأطراف ووعدهم وبذل لهم البذول على نصرته فأجابه نور الدين محمد بن قراآرسلان صاحب الحصن إلى ما طلب منه لقاعدة كانت قد استقرت بينهما لما كان نور الدين عنده بالشام فإنه استقر الحال أن صلاح الدين يحصر آمد ويملكها ويسلمها إليه وسار صلاح الدين إلى مدينة الرها فحصرها في جمادى الأولى وقاتلها أشد قتال‏.‏

فحدثني بعض من كان بها من الجند انه عد في غلاف رمح أربعة عشر خرقًا وقد خرقته السهام‏.‏

ووالى الزحف عليها وكان بها حينئذ مقطعها وهو الأمير فخر الدين مسعود بن الزعفراني فحيث رأى شدة القتال أذعن إلى التسليم وطلب الأمان وسلم البلد وصار في خدمة صلاح الدين فلما ملك المدينة زحف إلى القلعة فسلمها إليه الدزدار الذي بها على مال أخذه فلما ملكها سلمها إلى مظفر الدين مع حران ثم سار عنها على حران إلى الرقة فلما وصل إليها كان بها مقطعها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي فسار عنها إلى عز الدين أتابك وملكها صلاح الدين وسار إلى الخابور قرقيسيا وماكسين وعابان فملك جميع ذلك‏.‏

فلما استولى على الخابور جميعه سار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام فملكها أيضًا وأقام بها ليصلح شانها ثم أقطعها أميرًا كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين وسار عنه ومعه نور الدين صاحب الحصن‏.‏

وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق ونهبوا القرى ووصلوا إلى داريا وأرادوا تخريب جامعها فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقولون لهم‏:‏ إذا خربتم الجامع جددنا عمارته وخربنا كل بيعة لكم في بلادنا ولا نمكن أحدًا من عمارتها فتركوه ولما وصل الخبر إلى صلاح الدين بذلك أشار عليه من يتعصب لعز الدين بالعود فقال‏:‏ يخربون قرى ونملك عوضها بلادًا ونعود نعمرها ونقوى على قصد بلادهم ولم يرجع فكان كما قال‏.‏

لما ملك صلاح الدين نصيبين جمع أمراءه وأرباب المشورة عنده واستشارهم بأي البلاد يبدأ وأيها يقصد بالموصل أم بسنجار أم بجزيرة ابن عمر فاختلفت آراؤهم فقال له مظفر الدين كوكبري بن زين الدين‏:‏ لا ينبغي أن يبدأ بغير الموصل فإنها في أيدينا لا مانع لها فإن عز الدين ومجاهد الدين متى سمعا بمسيرنا إليها تركاها وسارا عنها إلى بعض القلاع الجبلية‏.‏

ووافقه ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه وكان قد بذل لصلاح الدين مالًا كثيرًا ليقطعه الموصل إذا ملكها وقد أجابه صلاح الدين إلى ذلك فأشار بهذا الرأي لهواه فسار صلاح الدين إلى الموصل وكان عز الدين صاحبها ومجاهد الدين قد جمعا العساكر الكثيرة ما بين فارس وراجل وأظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار وبذلا الأموال الكثيرة واخرج مجاهد الدين من ماله كثيرًا واصطلى الأمور بنفسه فأحسن تدبيرها وشحنوا ما بقي بأيديهم من البلاد كالجزيرة وسنجار وإربل وغيرها من البلاد بالرجال والسلاح والأموال‏.‏

وسار صلاح الدين حتى قارب الموصل وترك عسكره وانفرد هو ومظفر الدين وابن عمه ناصر الدين بن شيركوه ومعهما نفر من أعيان دولته وقربوا من البلد فلما قربه رآه وحققه فرأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه فإنه رأى بلدًا عظيمًا كبيرًا ورأى السور والفصيل ملئا من الرجال وليس فيه شرافة غلا وعليها رجل يقاتل سوى من عليه من عامة

البلد المتفرجين فلما رأى ذلك علم انه لا يقدر على أخذه وانه يعود خائبًا فقال لناصر الدين ابن عمه‏:‏ إذا رجعنا إلى المعسكر فاحمل ما بذلت من المال فنحن معك على القول‏.‏

فقال ناصر الدين‏:‏ قد رجعت عما بذلت من المال فإن هذا البلد لا يرام‏.‏

فقال له ولمظفر الدين‏:‏ غررتماني وأطمعتماني في غير مطمع ولو قصدت غيره قبله لكان أسهل أخذًا بالاسم والهيبة التي حصلت لنا ومتى نازلناه وعدنا منه ينكسر ناموسنا ويفل حدنا وشوكتنا‏.‏

ثم رجع إلى معسكره وصبح البلد وكان نزوله عليه في رجب فنازله وضايقه ونزل محاذي باب كندة وانزل صاحب الحصن بباب الجسر وانزل أخاه تاج الملوك عند الباب العمادي وانشب القتال فلم يظفر وخرج غليه يومًا بعض العامة فنالوا منه ولم يمكن عز الدين ومجاهد الدين أحدًا من العسكر أن يخرجوا لقتال بل ألزموا الأسوار ثم عن تقي الدين أشار على عمه صلاح الدين بنصب منجنيق فقال‏:‏ مثل هذا البلد لا ينصب عليه منجنيق ومتى نصبناه أخذوه ولو خربنا برجًا وبدنة من يقدر على الدخول للبلد وفيه هذا الخلق الكثير فألح تقي الدين وقال‏:‏ نجربهم به فنصب منجنيقًا فنصب عليه من البلد تسعة مجانيق وخرج جماعة من العامة فأخذوه وجرى عنده قتال كثير فأخذ بعض العامة لألكة من رجليه فيها المسامير الكثيرة ورمى بها أميرًا يقال له جاولي الأسدي مقدم الأسدية وكبيرهم فأصاب صدره فوجد لذلك ألمًا شديدًا وأخذ اللاكة وعاد عن القتال إلى صلاح الدين وقال‏:‏ قد قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها وألقى اللاكة وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنفة حيث ضرب بهذه‏.‏

ثم إن صلاح الدين رحل من قرب لبلد ونزل متأخرًا خوفًا من البيات فإنه لقربه كان لا يأمن ذلك وكان سببه أيضًا أن مجاهد الدين اخرج في بعض الليالي جماعة من باب السر الذي للقلعة ومعهم المشاعل فكان أحدهم يخرج من الباب وينزل إلى دجلة مما يلي عين الكبريت ويطفئ المشعل فرأى العسكر الناس يخرجون فلو يشكوا في الكبسة فحملهم ذلك على الرحيل والتأخر ليتعذر البيات على أهل الموصل‏.‏

وكان صدر الدين شيخ الشيوخ رحمه الله وقد وصل إليه قبل نزوله على الموصل ومعه بشير الخادم وهم من خواص الخليفة الناصر لدين الله في الصلح فأقاما معه على الموصل وترددت الرسل إلى عز الدين ومجاهد الدين في الصلح فطلب عز الدين إعادة البلاد التي أخذت منهم فأجاب صلاح الدين إلى ذلك بشرط أن تسلم إليه حلب فامتنع عز الدين ومجاهد الدين ثم نزل عن ذلك وأجاب إلى تسليم البلاد بشرط أن يتركوا إنجاد صاحب حلب عليه فلم يجيبوه إلى ذلك أيضًا وقال عز الدين‏:‏ هو أخي وله العهود والمواثيق ولا يسعني نكثها‏.‏

ووصلت أيضًا رسل قزل أرسلان صاحب أذربيجان ورسل شاه أرمن صاحب خلاط في المعنى فلم ينتظم أمر ولا تم صلح فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينال من الموصل غرضًا ولا يحصل على غير العناء والتعب وأن من بسنجار من العساكر الموصلية يقطعون طريق من يقصدونه من عساكره وأصحابه سار من الموصل إليها‏.‏

  ذكر ملكه مدينة سنجار

لما سار صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار سير مجاهد الدين إليها عسكرًا قوة لها ونجدة فسمع بهم صلاح الدين فمنعهم من الوصول إليها وأوقع بهم وأخذ سلاحهم ودوابهم وسار إليها ونازلها وكان بها شرف الدين أمير أميران هندوا أخو عز الدين صاحب الموصل في عسكر معه فحصر البلد وضايقه وألح في قتاله فكاتبه بعض أمراء الأكراد الذين به من الزرزارية وخامر معه وأشار بقصده من الناحية التي هو بها ليسلم إليه البلد فطرقه صلاح الدين ليلًا فسلم إليه ناحيته فملك الباشورة لا غير‏.‏

فلما سمع شرف الدين الخبر استكان وخضع و طلب الأمان فأمن ولو قاتل على تلك الناحية لأخرج العسكر الصلاحي عنها ولو امتنع بالقلعة لحفظها ومنعها ولكنه عجز فلما طلب الأمان أجابه صلاح الدين إليه فأمنه وملك البلد‏.‏

وسار شرف الدين ومن معه إلى الموصل واستقر جميع ما ملكه صلاح الدين بملك سنجار فإنه كان قصد أن يسترده المواصلة إذا فارقه لأنه لم يكن فيه حصن غير الرُّها فلما ملك سنجار صارت على الجميع كالسور واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أنز وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى‏.‏

  ذكر عود صلاح الدين إلى حران

لما ملك صلاح الدين سنجار وقرر قواعدها سار إلى الصين فلقيه أهلها شاكين من أبي الهيجاء السمين باكين من ظلمه متأسفين على دولة عز الدين وعدله فيهم فلما سمع ذلك أنكر على أبي الهيجاء ظلمه وعزله عنهم وأخذه معه وسار إلى حران وفرق عساكره ليستريحوا وبقي جريدة في خواصه وثقات أصحابه وكان وصوله إليها أوائل ذي القعدة من السنة‏.‏

  ذكر اجتماع عز الدين وشاه أرمن

في هذه السنة في ذي الحجة اجتمع أتابك عز الدين صاحب الموصل وشاه أرمن صاحب خلاط على قتال صلاح الدين‏.‏

وسبب ذلك أن رسل عز الدين ترددت إلى شاه أرمن يستنجده ويستنصره على صلاح الدين فأرسل شاه أرمن إلى صلاح الدين عدة رسل في الشفاعة إليه بالكف عن الموصل وما يتعلق بعز الدين فلم يجبه إلى ذلك وغالطه فأرسل إليه أخيرًا مملوكه سيف الدين بكتمر الذي ملك خلاط بعد شاه أرمن فأتاه وهو يحاصر سنجار يطلب إليه أن يتركها ويرحل عنها وقال له‏:‏ إن رحل عنها وإلا فتهدده بقصده ومحاربته فأبلغه بكتمر الشفاعة فسوّفه في الجواب رجاء أن يفتحها فلما رأى بكتمر ذلك أبلغه الرسالة الثانية بالتهديد وفارقه غضبان ولم يقبل منه خلعة ولا صلة وأخبر صاحبه الخبر وخوفه عاقبة الإهمال والتواني عن صلاح الدين فسار شاه أرمن من خلاط وكان مخيمًا بظاهرها وسار إلى ماردين وصاحبها حينئذ قطب الدين بن نجم الدين ألبي وهو ابن أخت شاه أرمن وابن خال عز الدين وحموه لأن عز الدين كان قد زوج ابنته قطب الدين وحضر مع شاه أرمن دولة شاه صاحب بدليس وأرزن وسار أتابك عز الدين من الموصل في عسكره جريدة من الأثقال‏.‏

وكان صلاح الدين قد ملك سنجار وسار عنها إلى حران وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم سير إلى تقي الدين ابن أخيه وهو بحماة يستدعيه فوصل إليه مسرعًا وأشار عليه بالرحيل وحذره منه آخرون وكان هوى صلاح الدين في الرحيل فرحل إلى راس عين فلما سمعوا برحيله تفرقوا فعاد شاه أرمن إلا خلاط واعتذر بأنني أجمع العساكر وأعود ورجع عز

الدين إلى الموصل وأقام قطب الدين بماردين وسار صلاح الدين فنزل بحرزم تحت ماردين عدة أيام‏.‏

  ذكر الظفر بالفرنج في بحر عيذاب

في هذه السنة عمل البرنس صاحب الكرك أسطولًا وفرغ منه بالكرك ولم يبق إلا جمع قطعه بعضها إلى بعض وحملها إلى بحر أيله وجمعها في أسرع وقت‏.‏

وفرغ منها وشحنها بالمقاتلة وسيرها فساروا في البحر وافترقوا فرقتين‏:‏ فرقة أقامت على حصن أيلة وهو للمسلمين يحصرونه ويمنع أهله من ورود الماء فنال أهله شدة شديدة وضيق عظيم وأما الفرقة الثانية فإنهم ساروا نحو عيذاب وأفسدوا في السواحل ونهبوا وأخذوا ما وجدوا من المراكب الإسلامية ومن فيها من التجار وبتغوا الناس في بلادهم على حين غفلة منهم فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجيًا قط لا تاجرًا ولا محاربًا‏.‏

وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب ينوب عن أخيه صلاح الدين فعمر أسطولًا وسيره وفيه جمع كثير من المسلمين ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ وهو متولي الأسطول بديار مصر وكان مظفرًا فيه شجاعًا كريمًا فسار لؤلؤ مجدًا في طلبهم فأبتدأ بالذين على أيلة فانقض عليهم

انقضاض العقاب على صيدها فقاتلهم فقتل بعضهم وأسر الباقي وسار من وقته بعد الظفر يقص أثر الذين قصدوا عيذاب فلم يرهم وكانوا قد أغاروا على ما وجدوه بها وقتلوا من لقوه عندها وساروا إلى غير ذلك المرسى ليفعلوا كما فعلوا فيه وكانوا عازمين على الدخول إلى الحجاز مكة والمدينة حرسهما الله تعالى وأخذ الحاج ومنعهم عن البيت الحرام والدخول بعد ذلك إلى اليمن‏.‏

فلما وصل لؤلؤ إلى عيذاب ولم يرهم سار يقفو أثرهم فبلغ رابغ وساحل الجوزاء وغيرهما فأدركهم بساحل الجوزاء فأوقع بهم هناك فلما رأوا العطب وشاهدوا الهلاك خرجوا إلى البر واعتصموا ببعض تلك الشعاب فنزل لؤلؤ من مراكبه إليهم وقاتلهم أشد قتال وأخذ خيلًا من الأعراب الذين هناك فركبها وقاتلهم فسانًا ورجالة فظفر بهم وقتل أكثرهم وأخذ الباقين أسرى وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم وعاد بالباقين إلى مصر فقتلوا جميعهم‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في جمادى الأولى توفي عز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين وكان ينوب عنه بدمشق وهو ثقته من أهله وكان اعتماده عليه أكثر من جميع أهله وامرأته وكان شجاعًا كريمًا فاضلًا عالمًا بالأدب وغيره وله شعر جيد من بين أشعار الملوك‏.‏

وكان ابتداء مرضه أنه خرج من دمشق إلى غزو الفرنج فمرض وعاد مريضًا فمات ووصل خبر موته إلى صلاح الدين وقد عبر الفرات إلى الديار الجزرية فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق ليكون مقدمًا على عسكرها‏.‏

وفيها مات فخر الدولة أبو المظفر بن الحسن بن هبة الله بن المطلب‏.‏

كان أبوه وزير الخليفة وأخوه أستاذ الدار فتصوف هو من زمن الصبا وبنى مدرسة ورباطًا ببغداد عند عقد المصطنع وبنى جامعًا بالجانب الغربي منها‏.‏

وفيها توفي الأمير أبو منصور هاشم ولد المستضيء بأمر الله ودفن عند أبيه‏.‏

وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي بن الرفيعي من سواد واسط وكان صالحًا ذا قبول عظيم عند الناس وله من التلامذة ما لا يحصى‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة

  ذكر ملك صلاح الدين آمد

قد ذكرنا نزول صلاح الدين بحرزم تحت ماردين فلم ير لطمعه وجهًا وسار عنها إلى آمد على طريق البارعية وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبه في كل وقت بقصدها وأخذها وتسليمها إليه على ما استقرت القاعدة بينهما فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين ونازلها و أقام يحاصرها‏.‏

وكان المتولي لأمرها والحاكم فيها بهاء الدين بن نيسان وكان صاحبها ليس له من الأمر شيء مع ابن نيسان فلما نازلها صلاح الدين أساء ابن نيسان التدبير ولم يعط الناس من الذخائر شيئًا ولا فرق فيهم دينارًا ولا قوتًا وقال لأهل البلد‏:‏ قاتلوا عن نفوسكم‏.‏

فقال له بعض أصحابه‏:‏ ليس العدو بكافر حتى يقاتلوا عن نفوسهم‏.‏ فلم يفعل شيئًا‏.‏

وقاتلهم صلاح الدين ونصب المجانيق وزحف إليها وهي الغاية في الحصانة والمنعة بها وبسورها يضرب المثل وابن نيسان على حاله من الشح بالمال وتصرفه تصرف من ولت سعادته وأدبرت دولته فلما رأى الناس ذلك منه تهاونوا بالقتال وجنحوا إلى السلامة‏.‏

وكانت أيام ابن نيسان قد طالت وثقلت على أهل البلد لسوء صنيعهم وملكتهم وتضييقهم عليهم في مكاسبهم فالناس كارهون لهان محبون لانقراضها‏.‏

وأمر صلاح الدين أن يكتب على السهام إلى أهل البلد يعدهم الخير والإحسان إن أطاعوه ويتهددهم إن قاتلوه فزادهم ذلك تقاعدًا وتخاذلًا وأحبوا ملكه وتركوا القتال فوصل النقابون إلى السور فنقبوه وعلقوه فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك طمعوا في ابن نيسان واشتطوا في المطالب‏.‏

فحين صارت الحال كذلك أخرج ابن نيسان نساءه إلى القاضي الفاضل وزير صلاح الدين يسأله أن يأخذ له الأمان ولأهله وماله وأن يؤخره ثلاثة أيام حتى ينقل ما له بالبلد من الأموال والذخائر فسعى له الفاضل في ذلك فأجابه صلاح الدين إليه فسلم البلد في العشر الأول من المحرم هذه السنة وأخرج خيمه إلى ظاهر البلد ورام نقل ماله فتعذر ذلك عليه لزوال حكمه عن أصحابه واطراحهم أمره ونهيه فأرسل إلى صلاح الدين يعرفه الحال ويسأله مساعدته على ذلك فأمده بالدواب والرجال فنقل البعض وسرق البعض وانقضت الأيام الثلاثة قبل الفراغ فمنع من الباقي‏.‏

وكانت أبراج المدينة مملوءة من أنواع الذخائر فتركها بحالها ولو أخرج البعض منها لحفظ البلد وسائر نعمه وأمواله لكن إذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه فلما تسلمها صلاح الدين سلمها نور الدين إلى صاحب الحصن فقيل له قبل تسليمها‏:‏ إن هذه المدينة فيها من الذخائر ما يزيد على ألف ألف دينار فلو أخذت ذلك وأعطيته جندك وأصحابك وسلمت البلد إليه فارغًا لكان راضيًا فإنه لا يطمع في غيره‏.‏

فامتنع من ذلك وقال‏:‏ ما كنت لأعطيه الأصل وأبخل بالفرع فلما تسلم نور الدين البلد اصطنع دعوة عظيمة ودعا إليها صلاح الدين وأمراءه ولم يكن دخل البلد وقدم له ولأصحابه من التحف والهدايا أشياء كثيرة‏.‏

  ذكر ملك صلاح الدين تل خالد وعين تاب من أعمال الشام

لما فرغ صلاح الدين من أمر آمد سار إلى الشام وقصد تل خالد وهي من أعمال حلب فحصرها ورماها بالمنجنيق فنزل أهلها وطلبوا الأمان فأمنهم وتسلمها في المحرم أيضًا‏.‏

ثم سار منها إلى عين تاب فحصرها وبها ناصر الدين محمد وهو أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي وصاحبه وكان قد سلمها إليه نور الدين فبقيت معه إلى الآن‏.‏

فلما نازله صلاح الدين أرسل إليه يطلب أن يقر الحصن بيده وينزل إلى خدمته ويكون تحت حكمه وطاعته فأجابه صلاح الدين إلى ذلك وحلف له عليه فنزل إليه وسار في خدمته وكان أيضًا في المحرم من هذه السنة‏.‏

  ذكر وقعتين مع الفرنج في البحر والشام

في هذه السنة في العاشر من المحرم سار أسطول المسلمين من مصر في البحر فلقوا بُطسة فيها نحو ثلثمائة من الفرنج بالسلاح التام ومعهم الأموال والسلاح إلى فرنج الساحل فقاتلوهم وصبير الفريقان وكان الظفر للمسلمين وأخذوا الفرنج أسرى فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم أسرى وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين‏.‏

وفيها أيضًا سارت عصابة كبيرة من الفرنج من نواحي الدارم إلى نواحي مصر ليغيروا وينهبوا فسمع بهم المسلمون فخرجوا إليهم على طريق صدر وأيلة فانتزح الفرنج من بين أيديهم فنزلوا بماء يقال له العسيلة وسبقوا المسلمين إليه فأتاهم المسلمون وهم عطاش قد أشرفوا على الهلاك فرأوا الفرنج قد ملكوا الماء فأنشأ الله سبحانه وتعالى بلطفه سحابة عظيمة فمرطوا منها حتى رووا وكان الزمان قيظًا والحر شديدًا في بر مهلك فلما رأوا ذلك قويت نفوسهم ووثقوا بنصر الله لهم وقاتلوا الفرنج فنصرهم الله عليهم فقتلوهم ولم يسلم منهم إلا الشريد الفريد وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودواب وعادوا منصورين قاهرين بفضل الله‏.‏

  ذكر ملك صلاح الدين حلب

و في هذه السنة سار صلاح الدين من عين تاب إلى حلب فنزل عليها في المحرم أيضًا في الميدان الأخضر وأقام به عدة أيام ثم انتقل إلى جبل جوشن فنزل بأعلاه وأظهر أنه يريد أن يبني وكان صاحب حلب عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ومعه العسكر النوري وهم مجدون في القتال فلما رأى كثرة الخرج كأنه شح بالمال فحضر يومًا عنده بعض أجناده وطلبوا منه شيئًا فاعتذر بقلة المال عنده فقال له بعضهم‏:‏ من يريد أن يحفظ مثل حلب يخرج الأموال ولو باع حلي نسائه فمال حينئذ إلى تسليم حلب وأخذ العوض منها وأرسل مع الأمير طمان الياروقي وكان يميل إلى صلاح الدين وهواه معه فلهذا أرسله فقرر قاعدة الصلح على أن يسلم عماد الدين حلب إلى صلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج وجرت اليمن على ذلك وباعها بأوكس الأثمان أعطى حصنًا مثل حلب وأخذ عوضها قرى ومزارع فنزل عنها عشر صفر وتسلمها صلاح الدين فعجب الناس كلهم من ذلك وقبحوا ما أتى حتى إن بعض عامة حلب أحضر اجانة وماء وناداه‏:‏ أنت لا يصلح لك الملك وإنما يصلح لك أن تغسل الثياب وأسمعوه المكروه‏.‏

واستقر ملك صلاح الدين بملكها وكان مزلزلًا فثبت قدمه بتسليمها وكان على شفا جرف هار وإذا أراد الله أمرًا فلا مرد له‏.‏

وسار عماد الدين إلى البلاد التي أعطيها عوضًا عن حلب فتسلمها وأخذ صلاح الدين حلب واستقر الحال بينهما‏:‏ إن عماد الدين يحضر في خدمة صلاح الدين بنفسه وعسكره إذا

استدعاه لا يحتج بحجة ومن الاتفاقات العجيبة أن محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح صلاح الدين بقصيدة منها‏:‏ وفتحكم حلبًا بالسيف في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة على ما ذكرناه إن شاء الله تعالى‏.‏

ومما كتبه القاضي الفاضل في المعنى عن صلاح الدين‏:‏ فأعطيناه عن حلب كذا وكذا وهو صرف على الحقيقة أخذنا فيه الدنانير وأعطيناه الدراهم ونزلنا عن القرى وأحرزنا العواصم‏.‏

وكتب أيضًا‏:‏ أعطيناه ما لم يخرج عن اليد يعني أنه متى شاء أخذه لعدم حصانته‏.‏

وكان ي جملة من قتل على حلب تاج الملوك بوري أخو صلاح الدين الأصغر وكان فارسًا شجاعًا كريمًا حليمًا جامعًا لخصال الخير ومحاسن الأخلاق طعن في ركبته فانفكت فمات منعها بعد أن استقر الصلح بين عماد الدين وصلاح الدين على تسليم حلب قبل أن يدخلها صلاح الدين فلما استقر أمر الصلح حضر صلاح الدين عند أخيه يعوده وقال له‏:‏ هذه حلب قد أخذناها وهي لك فقال‏:‏ ذلك لو كان وأنا حي‏.‏

ووالله لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي‏.‏

فبكى صلاح الدين وأبكى‏.‏

ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين وقد عمل له دعوة احتفل فيها فبينما هم في سرور إذ جاء إنسان فأسر إلى صلاح الدين بموت أخيه فلم يظهر هلعًا ولا جزعًا وأمر بتجهيزه سرًا ولم يعلم عماد الدين ومن معه في الدعوة واحتمل الحزن وحده لئلا يتنكر ما هم فيه وكان هذا من الصبر الجميل‏.‏